﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
 
 

 التحايل السياسي (الإمام علي والمغيرة - نُصْحُ اليومِ وتحايلُ الغدِ)  

القسم : متفرقات ثقافية   ||   التاريخ : 2025 / 08 / 25   ||   القرّاء : 32

🔴 التحايل السياسي (الإمام علي والمغيرة - نُصْحُ اليومِ وتحايلُ الغدِ) 

 

نصيحة المغيرة الأُولى للإمام علي

بعدَ أنْ بُويِعَ الإمامُ عليٌّ (عليه السلام) بالخلافةِ سنةَ ٣٥ هـ، جاءَه (المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ)، وهو مِنْ دُهاةِ العربِ وذَوِي آرائِها، فقالَ لهُ:

"يَا أَمُيرَ المُؤْمُنِينَ! إِنِّي لَكَ نَاصِحٌ. إِنِّي قَدْ خَبَرْتُ النَّاسَ، وَعَرَفْتُ مَكَامِنَ قلوبِهم. إِنَّ الشَّامَ بِيَدِ مُعَاوِيَةَ، وَأَهْلُهَا قَدْ أَلِفُوهُ وَرَضُوا بِحُكْمِهِ، وَهُوَ ذُو دَهَاءٍ وَمَكِيدَةٍ. فَإِنِّي أَرَى أَنْ تُقِرَّهُ عَلَى الشَّامِ مَا دُمْتَ مُشْتَغِلًا بِتَوْطِيدِ أَمْرِكَ، حَتَّى إِذَا حَجَّ هَذَا العَامَ، أَمْكَنَكَ أَنْ تُنْزِلَهُ وَتَسْتَبْدِلَ بِهِ غَيْرَهُ، فَتَكُونَ قَدْ أخَذْتَ البِلَادَ، وَاسْتقَامَتْ لَكَ الأُمُورُ".

- تحليلها:

ذكرَ المغيرةُ للإمامِ عليٍّ بصيغةِ (ظاهرُها النُّصْحُ وباطنُها التحايلُ السياسيُّ)، أنَّ لمعاويةَ القوَّةَ والغَلَبَةَ في الشَّامِ، وأهلُها مُوَالُونَ لَهُ، رَاضُونَ بولايتِه، لذا فَمِنْ الأجدى عدمُ عَزْلِه خشاةَ اشتعالِ الفتنةِ، والحالُ أنَّ الإمامَ لم يُوَطِّدْ سلطانَه بعدُ. لذلك، فمقتضى الحنكةِ السياسيَّةِ أنْ يُبْقِيَ معاويةَ مؤقَّتًا واليًا على الشَّامِ حتَّى يستقرَّ أمرُه (عليه السلام)، وتنثنيَ وسادتُه، ثُمَّ يترقَّبَ قُدُومَ معاويةَ إلى مَكَّةَ للحجِّ، فيعزلَه، ويستبدلَه بِوَالٍ آخرَ.

خلاصةُ المرادِ:

نَصَحَ المغيرةُ الإمامَ عليًّا أنْ يُقِرَّ ولايةَ معاويةَ صُورِيًّا، ثُمَّ يغدرَ به، ويعزلَه على غِرَّةٍ لاحقًا.

 

جواب الإمام علي على نصيحة المغيرة الأُولى 

أجابَه الإمامُ عليٌّ (عليه السلام):

"وَاللّٰهِ لَا أُدَاهِنُ فِي دِينِي، وَلَا أُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي أَمْرِي. وَاللّٰهِ لَوْ سَأَلَنِي مُعَاوِيَةُ قَرْيَةً مَا وَلَّيْتُهُ إِيَّاهَا سَاعَةً! إِنَّمَا هِيَ بَيْعَةٌ عَامَّةٌ، مَنْ رَضِيَ بِهَا فَذَلِكَ، ومَنْ سَخِطَها فَلْيُنْكِرْ، وَلَيْسَتِ الشَّامُ بِأَكْرَمَ عَلَى اللّٰهِ مِنَ الحِجَازِ والعِرَاقِ".

- تحليله:

رفضَ الإمامُ عليٌّ الاستراتيجيَّةَ المقترحةَ مِنَ المغيرةَ رفضًا قاطعًا لا جدالَ فيه؛ لِمَا فيها مِنَ الغدرِ والخيانةِ، وهو (عليه السلام) لا يبنِي دولتَه، ولا يقيمُ سلطتَه بالخداعِ، حتَّى مَعَ خصومِه؛ كما جاءَ في الحديثِ الشريفِ: "الإِيمَانُ قَيَّدَ الفَتْكَ"؛ أي: إنَّ الإيمانَ لا يُبِيحُ للمؤمنِ أنْ يتوسَّلَ أيَّ سبيلٍ كانت للفتكِ بعدوِّه، بل لا بدَّ مِنْ مراعاةِ القيمِ والمبادئِ الأخلاقيَّةِ في كلِّ حالٍ، خلافًا للقاعدةِ (الميكافيليَّة): "الغَايَةُ تُبَرِّرُ الوَسِيلَةَ".

ومِنْ هنا قالَ الإمامُ عليٌّ مقالتَه الشهيرةَ: "وَاللّٰهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي، وَلَكِنَّهُ يَغْدُرُ وَيَفْجُرُ، وَلَوْلَا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ. وَلَكِنْ كُلُّ غُدْرَةٍ فُجْرَةٌ، وَكُلُّ فُجْرَةٍ كُفْرَةٌ". 

أمَّا قولُه (عليه السلام): "لا أُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي أَمْرِي"، فمعناه: إنِّي لا أقبلُ بالدناءةِ مِنْ خلالِ التنازلِ عَنِ الحقِّ في موقفِي ومسلكِي وسياستِي.

وبالتالي، لَنْ أُفَرِّطَ في مبادئِي مَعَ خصومِي، أو أخرقَ منظومتِي القيميَّةَ التي أتمسَّكُ بها كما يتمسَّكُ المقاتلُ برايةِ المعركةِ، حتَّى لو حقَّقَ ذلك - في الظاهرِ - مكسبًا سياسيًّا أو مطمعًا دنيويًّا، فالمؤمنُ لا يَشْرِي دنياه بآخرتِه، كما لا يبيعُ دينَه وشرفَه بنصرٍ زائفٍ. 

 

نصيحة المغيرة الثانية للإمام علي 

خرجَ المغيرةُ مِنْ عندِ الإمامِ خائبًا، ثُمَّ عادَ إليه بعدَ مُدَّةٍ وجيزةٍ قائلًا لَهُ:

"يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ! إِنِّي فَكَّرتُ فِي الأَمْرِ الذي عَرَضْتُهُ عَلَيْكَ، فَإِذَا هُوَ الرَّأْيُ الصَّوَابُ. إِنَّكَ إِنْ أَقْرَرْتَ مُعَاوِيَةَ عَلَى الشَّامِ اليَوْمَ، كَانَ أَجْمَعَ لِأَمْرِكَ، وَأَهْدَأَ لِفِتْنَتِكَ، ثُمَّ إِذَا اسْتَقَامَتْ لَكَ البِلَادُ، نَزَعْتَهُ مَتَى شِئْتَ".

- تحليلها:

بعدما أخفقَ المغيرةُ في إقناعِ أميرِ المؤمنينَ بسلوكِ استراتيجيَّةِ التحايلِ السياسيِّ المتمثِّلةِ باقتناصِ معاويةَ غَدْرًا في الحجِّ، ومِنْ ثَمَّ عَزْلُه، عَدَلَ إلى رأيٍ آخرَ، مفادُه: أنْ يُقِرَّ الإمامُ معاويةَ الآنَ على ولايةِ الشَّامِ، لتجتمعَ كلمةُ النَّاسِ، وتخمدَ جذوةُ الفتنةِ، فإذا استقرَّتْ للإمامِ البلادُ، عَزَلَه متى شاءَ صراحةً لا غِيلَةً. 

إذًا، الفارقُ الأساسُ بينَ نصيحةِ المغيرةَ الأُولى والثانيةِ، هو انتقالُه مِنْ الخداعِ الصُّرَاحِ والغدرِ القُرَاحِ إلى تكتيكٍ سياسيٍّ تحايليٍّ براغماتيٍّ، يقومُ على التدرُّجِ في الموقفِ، وكَسْبِ الوقتِ حتَّى بلوغِ الغايةِ المرجوَّةِ، ألا وهي عَزْلُ معاويةَ.

ولكنْ في كلتا النصيحتينِ، نجدُ أنَّ المغيرةَ قد تغافلَ أو تجاهلَ أمرًا مبتوتًا لدى أميرِ المؤمنينَ، ألا وهو عدمُ التَّرَيُّثِ في عَزْلِ معاويةَ ولو لساعةٍ. وهذا ما أمضاه بقولِه: "وَاللّٰهِ لَوْ سَأَلَنِي مُعَاوِيَةُ قَرْيَةً مَا وَلَّيْتُهُ إِيَّاهَا (سَاعَةً)". 

 

جواب الإمام علي على نصيحة المغيرة الثانية 

لَمْ يَنْطَلِ على الإمامِ عليٍّ هذا التبدُّلُ في موقفِ المغيرةَ التحايليِّ بُغْيَةَ التَّمَلُّقِ والمُمَالَأَةِ، فقالَ لهُ (عليه السلام) مُوجِزًا: "أَمَا وَاللّٰهِ لَقَدْ نَصَحْتَنِي أَمْسِ، وَغَشَشْتَنِي اليومَ". 

- تحليله:

ظهرتْ جليًّا في نصيحةِ المغيرةَ الثانيةِ محاولتُه أنْ يمدَّ الإمامَ عليًّا بـ(مخرجٍ سياسيٍّ)، حاصلُه: إبقاءُ معاويةَ في سِدَّةِ ولايةِ الشَّامِ. وهذا ما يعني عمليًّا تثبيتَ حكمِ معاويةَ غيرِ الشرعيِّ، وإيهانَ سلطةِ الإمامِ الشرعيَّةِ. ولكنَّه (عليه السلام) رفضَ ذلك بشدَّةٍ؛ لأنَّه اعتبره مداهنةً في الدينِ، وتفريطًا في الحقِّ، وهو الذي لا تأخذُه فيهما لومةُ لائمٍ. 

وهكذا انكشفَ تردُّدُ المغيرةَ وتقلُّبُ رأيِه، فبكَّتَه الإمامُ متَّهمًا إيَّاه بإظهارِ شيءٍ وإبطانِ غيرِه، وتَبْدِيلِ رأيِه مجاراةً لأغراضِه السياسيَّةِ.

 

إسقاط على السياسة اللبنانية المعاصرة 

إنَّ واقعةَ نصيحةِ المغيرةَ للإمامِ عليٍّ في شأنِ معاويةَ، تكشفُ عَنْ ثنائيَّةٍ متكرِّرةٍ في التاريخِ السياسيِّ، هي: (ثنائيَّةُ التمسُّكِ بالمبدإِ في مواجهةِ منطقِ البراغماتيَّةِ والمساومةِ).

وإذا أُسقط هذا المعنى على الواقعِ اللبنانيِّ الراهنِ، أمكنَ القولُ:

إنَّ المعضلةَ الأساسَ تكمنُ في المفاضلةِ بينَ اعتمادِ التسوياتِ المرحليَّةِ في ظلِّ الضغوضاتِ التي قد تُفضي إلى تكريسِ موازينَ غيرِ وطنيَّةٍ، وبينَ التمسُّكِ بالثوابتِ الوطنيَّةِ والدستوريَّةِ، ولو كان ثمنُها باهظًا على المدى المنظورِ.

إنَّ درسَ الإمامِ عليٍّ في رفضِه الخضوعَ والغدرَ والمداهنةَ، يقدِّمُ أُنموذجًا يُعيدُ التذكيرَ بأنَّ بناءَ الشرعيَّةِ السياسيَّةِ لا يقومُ على المساوماتِ العابرةِ، بل على الثباتِ على المبادئِ، وإعلاءِ قيمةِ الحقِّ فوقَ مقتضياتِ اللحظةِ.

 

المصادر

١- الطبريُّ، تاريخ الأمم والملوك.

٢- ابن الأثير، الكامل في التاريخ.

٣- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة (ج ٢ ص ٢٧٢).

٤- طه حسين، الفتنة الكبرى – عليٌّ وبنوه.

➖➖➖➖➖➖➖➖

د. السيد حسين علي الحسيني 

واتساب: 009613804079 



 
 


الصفحة الرئيسية

د. السيد حسين الحسيني

المؤلفات

أشعار السيد

الخطب والمحاضرات

فتاوى (عبادات)

فتاوى (معاملات)

البحوث الفقهية

بحوث فلسفية وأخلاقية

البحوث العقائدية

حوارات عقائدية

متفرقات

سؤال واستخارة

سيرة المعصومين

أسماء الله الحسنى

أحكام التلاوة

الأذكار

أدعية وزيارات

الأحداث والمناسبات الإسلامية

     جديد الموقع :



 التحايل السياسي (الإمام علي والمغيرة - نُصْحُ اليومِ وتحايلُ الغدِ)

 الإسلام القرآني

 

 انتقال السيدة العذراء

 أرز الله

 جراح الطفولة وأقنعة الأنا

 الذكورية في استعراضات الأنثى

 العائلة نواة المجتمع

 وَهْمُ الكمالِ

 شجرة_البؤس: (رؤية تحليليَّة)

     البحث في الموقع :


  

     ملفات عشوائية :



 يعبد الله على حرف

 كيفية الوضوء

 سبب نزول {اليوم أكملت لكم دينكم}

 لأخذ المصحف وتلاوة القرآن

 مستحبّات قبل الدّفن وحينه وبعده

 طلاق من لا تحيض وهي في سن من تحيض

 دعاء الصباح

 هل يقال: أنا فاطر أم مفطر؟

 أحد الشعانين (عيد الشعنينة)

 محادثة الرجال والنساء

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

Phone : 009613804079      | |      E-mail : dr-s-elhusseini@hotmail.com      | |      www.dr-s-elhusseini.net      | |      www.dr-s-elhusseini.com

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net