﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
 
 

 التوبة (1) 

القسم : محاضرات رمضانية   ||   التاريخ : 2011 / 01 / 29   ||   القرّاء : 17344

          بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيد المرسلين وخاتم النبيين أبي القاسم ياسين، وعلى آله الطيبين الطاهرين المعصومين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجميعن إلى أن يشاء رب العالمين، وبعد..

          قال تعالى: >... كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ<الطور 21. وإلى هذا المعنى أشار النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبة استقبال شهر رمضان؛ حيث قال: "أيها الناس إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم". فنحن مديونون، وأنفسنا هي الرهون الذي ستلقى في نار الدائن إن لم نفكها بقضاء ديننا. وفك الرهن لا يكون بدفع المال، فإنه >يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ< الشعراء 88-89. وإنما يكون بالاستغفار من الذنوب التي تكب الناس على مناخرهم ووجوهم يوم القيامة. وأفضل فرصة لطلب الاستغفار وتحصيل التوبة هو شهر رمضان المبارك، حيث أبوابُ الجنان مفتـَّحةٌ نسأل الله أن لا يغلقها علينا، والشياطين مغلولة نسأل الله أن لا يسلطها علينا. ولكن ما هي أقسام الذنوب؟ وما هي أبواب غفرانها؟ هذا ما سنتكلم عنه إن شاء الله.

أقسام الذنوب

          هناك تقسيمان للذنوب. التقسيم الأول، نقول فيه: إن الذنوب نوعان: ذنوب غير مغفورة، وذنوب مغفورة.

أما الذنوب غير المغفورة، فهي ظلم العباد بعضهم لبعض، فإن الله إذا برز للخليقة أقسم على نفسه فقال: وعزتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم...فيقتص للعباد بعضهم من بعض حتى لا يبقى لأحد مظلمة، ثم يبعثهم للحساب. والمظالم آخر عقبة على الصراط، وهي العقبة السابعة المعروفة بـ(المرصاد). والذنب الثاني غير المغفور هو الشرك بالله، قال تعالى: > إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا< النساء 116.

أما الذنوب المغفورة، فمرة يغفرها الله بقبول توبة عبده، وأخرى يغفرها بأن يعجل العقوبة له في الدنيا حينما لا يجد منه توبة، والله تعالى أحلم وأكرم من أن يعاقب عبده مرتين.

أما التقسيم الثاني للذنوب، فهو تقسيمها إلى كبائر وصغائر، والكبائر كما جاء عن الصادق (عليه السلام): "الكبائر التي أوجب الله عليها النار". وقد سئل عنها (عليه السلام) فقال: "هن في كتاب عليّ سبعٌ:  الكفر بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وأكل الربا بعد البينة، وأكل مال اليتيم ظلما، والفِرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة". والأخيرة تعني ترك تعاليم الإسلام وآدابه والرجوع إلى عادات الجاهلية. فقيل للإمام: "فأكل درهم من مال اليتيم ظلما أكبر أم ترك الصلاة؟ قال: ترك الصلاة، قيل: فما عددت ترك الصلاة من الكبائر، فقال: أي شيء أول ما قلت لك؟ قال: الكفر، قال: فإن تارك الصلاة كافر".

هذه هي الكبائر وما عداها صغائر، إلا أنها تكبر بأسباب خمسة:

أوّلا: بالإصرار عليها؛ قال الصادق (عليه السلام): "لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار".

ثانيا: استصغار الصغيرة؛ قال الباقر (عليه السلام): "من الذنوب التي لا تغفر، قول الرجل: ليتني لا أؤاخذ إلا بهذا".

ثالثا: السرور بالمعصية؛ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "من أذنب ذنبا، وهو ضاحك، دخل النار وهو باك". وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): "أربعة في الذنب شر من الذنب: الاستحقار، والافتخار، والاستبشار، والإصرار".

رابعا: التهاون بستر الله على ذنوبه، فيذكر معاصيه بعد إتيانها؛ فعن الرضا (عليه السلام): "قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): المستتر بالحسنة يعدل سبعين حسنة، والمذيع بالمسيئة مخذول، والمستتر بها مغفور له".

خامسا: أن يكون المذنب عالما يقتدى به، وهذا قد يصل إلى المؤمن المعروف بإيمانه وتقواه، والشيخ الكبير، فإن زلة هؤلاء تغري غيرهم بالتجرؤ على ما هو أكثر من فعلهم، من هنا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "زلة العالم تفسد العوالم"، وقوله: "زلة العالم كانكسار السفينة، تـَغرق، وتـُغرق معها غيرها".

التوبة وشروطها

عرفنا أقسام الذنوب، والآن نتكلم عن أبواب غفرانها. هناك أبواب عديدة لغفران الذنوب، أولها وأفضلها التوبة.

الباب الأول: التوبة

          جاء في النبوي: "ما من يوم طلع فجره، ولا ليلة غاب شفقها- حمرة الشمس أول الليل-، إلا وملكان يتجاوبان بأربعة أصوات؛ يقول أحدهما: يا ليت هذا الخلق لم يخلقوا، ويقول الآخر: يا ليتهم إذا خلقوا علموا لماذا خلقوا، فيقول الآخر: ويا ليتهم إذا لم يعلموا لماذا خلقوا، عملوا بما علموا، فيقول الآخر: ويا ليتهم إذا لم يعملوا بما علموا تابوا مما عملوا". إذن أقل ما يفعله العبد الذي لم يعلم الغاية من خلقه، أو لم يعمل بما تستوجبه الغاية من خلقه من الإقبال على الطاعة والإدبار عن المعصية، أن يتوب على الله مما عمل. فما هي التوبة؟

          روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "التوبة على أربعة دعائم: ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وعمل بالجوارح، وعزم على  أن لا يعود".

أما الندم، فهو  ما يصيب العاصي من ألم في قلبه لمخالفته ربه،  وهو أهم ما في التوبة، حتى ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): "التوبة ندم". وإن شئت قلت: إن الندم عملية تعقيم وتطهير للقلب مما أصابه من درن المعصية؛ قال تعالى: >...إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ< 222 البقرة. وأهمية الندم أنه يحقق أمور عدة: أولا: معرفة العاصي بقبح ذنبه واعترافه بخروجه عن حدود  الله، وثانيا: إقراره بأن الله علم بما فعل وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وثالثا: إدراكه أن الشيطان يتربص به شرا، وأنه ينتهز ضعف نفسه وانقيادها لرغباتها، ورابعا: شعوره بلذة الطهارة ونعيم الرجوع إلى ساحة الرحمن.

           التوبة كما قال المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) ندم، لدرجة أنه يحول المعصية إلى حسنة تدخله نعيم الجنة، واسمع ما جاء عن إمامنا الصادق (عليه السلام)، قال: "إن الرجل ليذنب فيدخله الله بالذنب الجنة. قيل: يدخله الله بالذنب الجنة؟ قال: نعم، إنه ليذنب الذنب، فلا يزال منه خائفا ماقتا لنفسه، فيرحمه الله فيدخله الجنة".

          هذه الدعامة الأولى للتوبة، وهو الندم، أما الدعامة الثانية، فهي الاستغفار، أي طلب المغفرة باللسان، والاستغفار وإن لم يكن في الواقع شرطا في تحصيل التوبة، ولكنه شرط في كمالها؛ إذ يعلن اللسان ما وقع في القلب من ندم على المعصية. كما أن الاستغفار سبب في تأخير تسجيل الذنب في صحيفة الأعمال، بل سبب في عدم تسجيله، فقد ورد عن الصادق (عليه السلام): "من عمل سيئة أجِّل فيها سبع ساعات من النهار، فإن قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، ثلاث مرات، لم تكتب عليه".

والاستغفار مانع من وقوع العذاب، وواق منه، قال تعالى: >وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ<  33 الأنفال.

ندمنا على ما فعلنا، واستغفرنا ربنا، فتأتي النوبة إلى الدعامة الثالثة وهي العمل بالجوارح، يعني إبراز التوبة بالعمل بعد القلب واللسان، وذلك عن طريق تأدية الحقوق إلى أصحابها من الناس، وقضاء ما فاتنا من الفرائض من حق الله، وما وجب علينا من كفارات...

ثم الدعامة الأخيرة التي بها تتحقق التوبة النصوح، وذلك بالعزم على عدم العود إلى المعصية من جديد، حتى لا تكون التوبة لقلقة لسان، ولا إغراء بارتكاب المعصية من جديد. والنصوح تقال على ثلاثة معان:

إما الخياطة، فالتوبة تنصح، أي تخيط من الدين ما مزقته الذنوب.

وإما من النصيحة، إذ التوبة تنصح الناس إذ تدعوهم بالمسارعة إلى ساحة الرحمن، ليلقوا الآثار الطيبة.

وإما الخالص، كما يقال: عسل نصوح، أي خالص، وكذلك تكون التوبة خالصة لله ولا يشوبه رغبة في العود إلى المعصية. وهذا المعنى الأخير أكثر تناسبا مع ما روي عن الصادق (عليه السلام): "التوبة النصوح أن يكون باطن الرجل كظاهره وأفضل".

وبهذا نصل إلى نهاية حديثنا في أقسام الذنوب وأولى أبواب المغفرة، وهي التوبة بدعائمها الأربعة كما وردت عن الأمير B: " ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وعمل بالجوارح، وعزم على  أن لا يعود".

          ونختم بما روي عن الأصمعي حينما رأى الإمام زين العابدين (عليه السلام)؛ حيث قال : "كنت أطوف حول الكعبة ليلة، فإذا شاب ظريف الشمائل وعليه ذؤابتان، وهو متعلق بأستار الكعبة وهو يقول: " نامت العيون، وغارت النجوم وأنت الملك الحي القيوم، غلقت الملوك أبوابَها، وأقامت عليها حراسَها، وبابك مفتوح للسائلين، جئتك لتنظر إليّ برحمتك يا أرحم الراحمين، ثم أنشأ يقول: يا من يجيب دعا المضطر في الظلم، يا كاشف الضر والبلوى مع السقم، قد نام وفدك حول البيت قاطبة، وأنت وحدَك يا قيوم لم تنم، أدعوك رب دعاءً قد أمرت به، فارحم بكائي بحق البيت والحرم، إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف، فمن يجود على العاصين بالنعم".

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.



 
 


الصفحة الرئيسية

د. السيد حسين الحسيني

المؤلفات

أشعار السيد

الخطب والمحاضرات

البحوث الفقهية

البحوث العقائدية

البحوث الأخلاقية

حوارات عقائدية

سؤال واستخارة

فتاوى (عبادات)

فتاوى (معاملات)

سيرة المعصومين

أسماء الله الحسنى

أحكام التلاوة

الأذكار

أدعية وزيارات

الأحداث والمناسبات الإسلامية

     جديد الموقع :



 كَبُرْتُ اليوم

 الاستدلال بآية الوضوء على وجوب مسح الرجلين

 العدالة

 السعادة

 قوى النفس

 البدن والنفس

 تلذُّذ النفس وتألمها

 العبادة البدنية والنفسية

 العلاقة بين الأخلاق والمعرفة

 المَلَكَة

     البحث في الموقع :


  

     ملفات عشوائية :



 سيرة الرسول الأعظم محمّد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

 مجهول المالك رد الظالم

 الإمام الحسن بن عليّ العسكري (عليهما السلام)

 الشك والظن

 الإغماء

 الواجد

 مستحبات الجماع

 الرشيد الصبور

 الحكيم الودود

 الدين معاملة

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

Phone : 009613804079      | |      E-mail : dr-s-elhusseini@hotmail.com      | |      www.dr-s-elhusseini.net      | |      www.dr-s-elhusseini.com

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net