﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
 
 

 عالم الذر 

القسم : الخطب   ||   التاريخ : 2011 / 01 / 27   ||   القرّاء : 19104

       بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الأول بلا أولٍ قبله، والآخر بلا آخرٍ بعده. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلها واحدا أحدا، صمدا، فردا، حيا قيوما، دائما أبدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا. ونشهد أن محمدًا عبده المصطفى ورسوله المنتجب أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. صلى الله عليه وسلم وعلى آله الأئمة، عبادِ الرحمن، وشركاءِ القرآن، ومنهج ِالإيمان. واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، إلى أن يشاء رب العالمين. وبعد

       عباد الله! أوصيكم وأوصي نفسيَ الأمارةَ قبلَكم بتقوى الله، الذي أشهدنا في عالم الذر على ربوبيته، فصرنا مؤمنين بفطرته، مهديين بلطف عنايته.

       إن حياة الإنسان وما يتخللها من تقلبات ومنعطفات تتلخّص في سبع مراحل، وهي: عالم الذر، وعالم الطين، وعالم الأصلاب، وعالم الأرحام، وعالم الدنيا، وعالم البرزخ، وعالم الآخرة. أما عالم الذر، فقد أشار إليه تعالى في سورة الأعراف: >وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ< الأعراف 172-173.

       يعني أن الله تعالى ألقى الحجة على بني آدم (عليه السلام)  قبل أن يوجدهم في عالم الدنيا، بأن أخذ منهم اعترافا بالربوبية، كي لا يدّعوا الغفلة عنها، ولا يتعذروا بتقليد الآباء، لأن التقليد عند قيام الحجة لا يصلح عذرا. وبهذا العهد والميثاق أدرك الإنسان ربه فطريا، فصارت معرفة الخالق إحساسا أصيلا في الإنسان >فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ< الروم 130. 

       يقول "جان دايورث" الأُستاذ بجامعة كولومبيا حول الدين وأصالته في المجتمع البشري: "إنّك لن تجد أية ثقافة لدى أية أُمَّة من الأُمم وقوم من الأقوام إلاّ ويكون في تلك الثقافة شكل من أشكال التديّن وأثر بارز للدين".

       فما من إنسان، إلا وهو مؤمن بالله تعالى، وإن جحد بذلك، من هنا سمي الكافر كافرا، فإن معنى كلمة كافر من كفر بالعربية، و(couvre) بالفرنسية، و(covers) بالإنكليزية، يعني (غطى)؛ أي غطى فطرته الشاهدة بالربوبية.

       إذًا الإيمان بالله أمر فطري، وأكثر تجليات هذا الإيمان في حالات الشدة حينما تنقطع بالإنسان السبل، فيتوجه إلى الله؛ لشعوره الباطني أن هناك قوةً عظيمة لها ولاية على هذا الكون، وهي قوة الله، وإن لم يدرك حقيقته. وهذا القرآن يحكي لنا حال فرعون قرابة غرقه، قال تعالى: >وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ< يونس 90-92. وكما وعد الله وفـى، فلو ذهبت إلى مصر اليوم لوجدت جثة فرعون (رمسيس الثاني) محنطة في المتحف المصري.

       وبعد بيان فطرية معرفة الله تعالى، نعود إلى موضوعنا الأساسي لمعرفة العالم الذي تم فيه الإشهاد على الربوبية. هذا العالم الذي سبق عالم الدنيا يعرف بـ(عالم الذر)، وسمي بذلك لكثرة الناس، فكأنهم كالذر؛ أي كالهباء المنتشر في الهواء، أو كصغار النمل. وسمي بـ(عالم الروح)؛ لأنه عالم عاشه الإنسان حينما كان روحاً بلا جسد لفوائد ومصالح جمة لا يدرك كنهها العقل القاصر.

       في عالم الذر أو عالم الروح كانت ذرية بني آدم (عليه السلام) أرواحا بلا أجساد في عالم ملكوت الله، هناك انعكست الصور، وعُلمت الأرزاق، والأقدار، وعُرف الصالحون والفاسدون. ولا يعني ذلك أن الله سبحانه خلق الخلق مجبرين مسيّرين مقهورين على أقدار لا يملكون تغييرها، وإنما يعني أن الله بعلمه الأزلي مطلع على كل شيء، >لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ< سبأ 3. وإلا لانتفى التكليف، وقبح الثواب والعقاب.  

       وهناك لما سئلت أرواح الخلائق عن الربوبية، فقالوا: بلى شهدنا، كان أول من سبق إلى هذا الجواب نبينا الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فاستحق بهذا السبق تفضيلا على جميع الأنبياء (عليهم السلام)، كما جاء عن الصادق (عليه السلام) أن بعض قريش سألوا النبي: بأي شيء سبقت الأنبياء، وفضلت عليهم، وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال: إني كنت أول من أقر بربي جل جلاله، وأول من أجاب؛ حيث أخذ الله ميثاق النبيين، وأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم؟ قالوا: بلى! فكنت أول نبي، فسبقتهم إلى الإقرار بالله (عز وجل).

       وأنى لنا أن نعرف المزيد عن هذا العالم لولا إخبار المعصومين (عليهم السلام)، فلنذهب إلى النبع الصافي لنتعرف على بعض أسراره من ألسنة خزنة الوحي.

       عن أبا جعفر (عليه السلام) يقول: "إن الله (عز وجل) لما أخرج ذرية آدم (عليه السلام) من ظهره ليأخذ عليهم الميثاق له بالربوبية، وبالنبوة لكل نبي، كان أول من أخذ عليهم الميثاق نبوة محمد ابن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم قال الله جل جلالة لآدم: انظر ماذا ترى؟ قال: فنظر آدم إلى ذريته وهم ( ذر ) قد ملؤوا السماء، فقال آدم يا رب ما أكثر ذريتي! ولأمر ما خلقتهم ؟ فما تريد منهم بأخذك الميثاق عليهم؟ قال الله (عز وجل): يعبدونني ولا يشركون بي شيئا، ويؤمنون برسلي ويتبعونهم. قال آدم: يا رب! فمالي أرى بعض الذر أعظم من بعض، وبعضهم له نور كثير، وبعضهم له نور قليل، وبعضهم ليس له نور؟ قال الله (عز وجل): كذلك خلقتهم لأبلوهم في كل حالاتهم. قال آدم: يا رب أفتأذن لي في الكلام فأتكلم؟ قال الله (عز وجل): تكلم فإن روحك من روحي، وطبيعتك من خلاف كينونتي، قال آدم: يا رب! لو كنت خلقتهم على مثال واحد، وقدر واحد، وطبيعة واحدة، وجبلة واحدة، وألوان واحدة، وأعمار واحدة، وأرزاق سواء، لم يبغ بعضهم على بعض، ولم يكن بينهم تحاسد ولا تباغض ولا اختلاف في شيء من الأشياء؟ قال الله جل جلاله: يا آدم! بروحي نطقت، وبضعف طبعك تكلفت ما لا علم لك به، وأنا الله الخالق العليم بعلمي، خالفت بين خلقهم وبمشيئتي يمضي فيهم أمري، وإلى تدبيري وتقديري هم صائرون، لا تبديل لخلقي، وإنما خلقت الجن والإنس ليعبدوني، وخلقت الجنة لمن عبدني وأطاعني منهم، واتبع رسلي ولا أبالي، وخلقت النار لمن كفر بي وعصاني ولم يتبع رسلي ولا أبالي، وخلقتك وخلقت ذريتك من غير فاقة لي إليك واليهم، وإنما خلقتك وخلقتهم لأبلوك وأبلوهم أيكم أحسن عملا في دار الدنيا، في حياتكم وقبل مماتكم، وكذلك خلقت الدنيا والآخرة والحياة والموت والطاعة والمعصية والجنة والنار، وكذلك أردت في تقديري وتدبيري وبعلمي النافذ فيهم، خالفت بين صورهم وأجسامهم وألوانهم وأعمارهم وأرزاقهم وطاعتهم ومعصيتهم، فجلعت منهم السعيد والشقي، والبصير والأعمى، والقصير والطويل، والجميل والذميم، والعالم والجاهل، والغني والفقير، والمطيع والعاصي، والصحيح والسقيم، ومن به الزمانة ومن لا عاهة به، فينظر الصحيح إلى الذي به العاهة فيحمدني على عافيته، وينظر الذي به العاهة إلى الصحيح فيدعوني ويسألني أن أعافيه، ويصبر على بلائي فأثيبه جزيل عطائي، وينظر الغني إلى الفقير فيحمدني ويشكرني، وينظر الفقير إلى الغني فيدعوني ويسألني، وينظر المؤمن إلى الكافر فيحمدني على ما هديته، فلذلك خلقتهم لأبلوهم في السراء والضراء، وفيما عافيتهم وفيما ابتليتهم وفيما أعطيتهم وفيما أمنعهم، وأنا الله الملك القادر، ولي أن أمضي جميع ما قدرت على ما دبرت، ولي أن أغير من ذلك ما شئت إلى ما شئت، فأقدم من ذلك ما أخرت وأؤخر ما قدمت، وأنا الله الفعال لما أريد، لا أسأل عما أفعل، وأنا أسأل خلقي عما هم فاعلون".

       هذا الحديث القدسي يفتح لنا الباب على كثير من المعاني العقائدية، وينوّر أمامنا الكثير من الأسئلة المظلمة التي لطالما سألنا عن أجوبتها، إلا أننا لا نبغي من وراء ذلك اليوم سوى تسليط الضوء على أولى مراحل الإنسان، وهي مرحلة (عالم الذر)؛ حيث تعرفنا عليه؛ وعلى سبب تسميته بذلك، وكيف شهدت فيه أرواحنا بالربوبية لأول مرة، تمهيدا وتوطئة لعالم الطين، ومن بعده العوالم الخمسة التالية: الأصلاب، والأرحام، والدنيا، والبرزخ، والآخرة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.



 
 


الصفحة الرئيسية

د. السيد حسين الحسيني

المؤلفات

أشعار السيد

الخطب والمحاضرات

البحوث الفقهية

البحوث العقائدية

البحوث الأخلاقية

حوارات عقائدية

سؤال واستخارة

فتاوى (عبادات)

فتاوى (معاملات)

سيرة المعصومين

أسماء الله الحسنى

أحكام التلاوة

الأذكار

أدعية وزيارات

الأحداث والمناسبات الإسلامية

     جديد الموقع :



 كَبُرْتُ اليوم

 الاستدلال بآية الوضوء على وجوب مسح الرجلين

 العدالة

 السعادة

 قوى النفس

 البدن والنفس

 تلذُّذ النفس وتألمها

 العبادة البدنية والنفسية

 العلاقة بين الأخلاق والمعرفة

 المَلَكَة

     البحث في الموقع :


  

     ملفات عشوائية :



 المبدئ المعيد

 متفرقات الخمس

 الأوَّل الآخِر

 زرع البويضة والحويمن

 زيارة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) المعروفة بزيارة أمين الله

 الذباحة

 مرحلة الطفولة

 التوبة (1)

 الحيّ القيّوم

 سجود السهو

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية
  • أرشيف المواضيع
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

Phone : 009613804079      | |      E-mail : dr-s-elhusseini@hotmail.com      | |      www.dr-s-elhusseini.net      | |      www.dr-s-elhusseini.com

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net